samedi 31 décembre 2016

اختيار مكان مناسب.. للموت! – عبد الكريم ساورة

 

   تتساقط الثلوج، الأرض صفحة بيضاء كقلب امرأة عاكفة في المعبد، شجيرات هنا وهناك مكسوة بثوب أبيض مدفونة على طرفي الجبل لايمكن تمييز عرقها وشكلها، تثير الدهشة والخوف، مسلك وحيد ضيق ووعر كله منعرجات، يوحي بالرهبة، وأنا ممدد على السرير، ارتشف كأسا من الشاي وأتابع هذه المشاهد من فيلم سينمائي ياباني بالشاشة الصغيرة، وفجأة تتحول الكاميرا نحو مشهد أكثر تراجيديا ودهشة، المشهد لرجل يحمل شيئا على ظهره، وهو يتتاقل في المشي، الكاميرا تقترب أكثر، الصورة الآن أكثر وضوحا ليس هناك أية مفاجئة، رجل بلباس خفيف، تظهر عليه علامات الزمن، وجهه يشبه الثلج، دو ملامح حادة، يحمل أمرأة عجوز تتجاوز الثمانين على ظهره المقوس، حتى لأجعل القارئ يتساءل من تكون، فهي أمه.

الأم، كانت قد أوصت أبنها، عندما تقترب من الموت، أو يقترب منها، بعد أن تكون رتبت كل شيء لأبنها من زواج و مساعدة في تربية الأبناء وغير ذلك من شؤون الزوجية، أن ينقلها إلى قمة الجبل في عز الثلوج وقسوة البرد، ويتركها هناك تلقى مصيرها لوحدها، إنها تريد أن تواجه الموت بشجاعة في مواجهة كل شيء، إنه نوع من الاحتفال بالموت على طريقتها الخاصة. هل يستطيع الواحد منا أن يترك قطعة من لحمه- وبالتحديد أمه- في هذا القفار المخيف بين الذئاب والضباع؟ ولماذا الأم تتشبث بهذا الإختيارالقاسي؟

سأترك الإجابة على هذه الأسئلة، ربما يجيب عنها مخرج الفيلم، بطريقته الرائعة، وهو المعروف بالعبقري، ولكنني أجد نفسي جد مرتاحا للإختيار الصائب للأم التي تتشبث بحقها في الموت، الموت يشبه الحياة كثيرا، ولهذا على الواحد منا أن يدافع عن موته كما يدافع عن حياته.

اختيار المكان المناسب للموت كما فعلت هذه العجوز هو سؤال وجودي بامتياز تتداخل فيه عدة أبعاد، البعد النفسي، والتربوي والديني والأخلاقي والميتافيزيقي، والعجائبي، والأكثر من ذلك قداسة العادات، هو في الأخير نوعٌ من عشق الموت على الطريقة التي يراها كل واحد منا، وعلى هذا الأساس يجب احترام طالبها، وربما لهذا السبب وافق الإبن واحترم رغبتها التي تبدو أكثر انسجاما مع “جنونها” وغرائبيتها، لكن يبقى اختيار الموت على قمة الجبل يحمل دلالة السمو والرِّفعة عوض الموت في المنزل، في فراش دافئ وسط الأهل وبكاء الأبناء وعويل الجيران ونباح الكلاب.

الموت بهذه الطريقة الغريبة وعلى هذه الرقعة الجغرافية يستحق بالفعل أن يُنقل إلى فعل فني وقد أبدع المخرج في نقله بصورة بارعة جدا للمشاهد حتى نال الفيلم في وقته العديد من الجوائز العالمية..

لكن، ماذا عن الوضع الدرامي في بلادنا، في المناطق الجبلية الثلجية وخصوصا منطقة “أنفكو” التي خرجت من المجهول والعزلة التي عانت منها سنوات طويلة، والفضل يرجع للصحافة التي أخرجتها من العتمة إلى الضوء، لكن المثير أن الساكنة أصبحت تحتفل كل سنة ب”أيام الحصار” والتي تجعلها تقبع في منازلها في انتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي لفك الحصار. لكن السؤال يبقى ما الذي يجمع بين النموذجين، النموذج السينمائي والنموذج الواقعي؟

لا شك أن مايجمع النموذجين هو تيمه الموت، فالمخرج الأسطورة “أكيرا كيروساوا” اشتغل على هذه التيمة في العديد من أفلامه حتى أضحت خاصية مركزية لا محيد عنها وأصبح هو والموت توأمان، والسبب في ذلك انتحار أخيه الأكبر، ومنذ ذلك الحين غدا الموت نوعا من الإحتفال في أفلامه.

بالنسبة للواقع المغربي وبالتحديد ساكنة أنفكو فهم يحبون الحياة على قمة الجبل ويرفضون الموت بسبب قسوة البرد والثلوج، ولهذا وبحلول فصل الشتاء من كل سنة يبدأون في الصراخ خوفا من الموت، إنهم يتشبثون بالحياة فوق الأرض، أرضهم التي ولدوا فيها وترعرعوا على منعرجاتها ولا يستطعون مغادرتها والابتعاد عن أسرارها العجيبة، إنه نوع من الحب الجنوني للمكان والأشجار والذاكرة، إنه التقاء قديم بأوجاع لا نهائية.

المفارقة العجيبة بين النموذجين، أن الأم في الفيلم تتشبت بالموت من أجل أن يفهم الناس الحياة، وهذا يظهر في اللقطات الأخيرة من الفيلم عندما ندم الابن ورجع مهرولا إلى المكان المخيف الذي وضع فيه أمه لينقذها ويعيدها إلى المنزل، لكنها رفضت بإصرار رهيب وهي تحرك رأسها يمينا وشمالا، لقد كانت لغة الصمت أقوى في مواجهة الموت والإبن. لكن بالنسبة لساكنة أنفكو فهم عكس الأم يتشبتون بالحياة بكل ما في الكلمة من معنى، من أجل أن يفهم الناس قسوة الموت، وكان الصراخ هو لغتهم في كل مرة، لكن لا أحد يفكر جديا في إنقاذهم من شبح الموت الذي يتهددهم في كل حين، من يدري قد تُنقل هذه التفاصيل الموجعة لهذه المنطقة المغربية إلى عمل فني في يوم من الأيام لتعرف الأجيال القادمة قصة هذا الجبل وأهله المغيبون من كل شيء.



from okhbir http://ift.tt/2ith9Dp
via IFTTT

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ

مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ